الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فإن تعبيرات الوجه تتكلم بصوت أعمق من صوت اللسان وكأني بها تقول عن صاحبها: إني أحبك، إني سعيد ومسرور برؤيتك، فالوجه هو عنوان الداعية، والمرآة التي تعكس نفسيته وأعماقه؛ فإن كان متجهما أوحى بالضيق والتجهم، وإن كان طلقا مبتسما أوحى بالبشر والخير.
والابتسامة هي انفراج أسارير عن انفعالات صادقة داخل النفس؛ تحرك الوجدان وتشرق على الوجه كوهج البرق، حتى ليكاد الوجه يتحدث بنداء وهواتف تلتقطها القلوب فتنجذب الأرواح فتأتلف بسبب ذلك.
فالداعية لابد أن يتذوق طعم الابتسامة الصادقة، ويدرك أثرها العظيم، فكلما أخلص فيها النية حفرت في الصخر وأنبتت في الصحراء، وأظهرت خير أمة أخرجت للناس، وكانت من صفة النبي -صلى الله عليه وسلم- كما يقول أصحاب السير: أنه كان بسـّام المحيا، كيف لا يكون وهو القائل: (تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ صَدَقَةٌ) رواه الترمذي، وصححه الألباني.
وهذه صدقة لا تكلفك دينارًا ولا درهمًا، وكنز لو عرفت كيفية استخدامه، لأسرت القلوب، ولفتحت النفوس ثم سكبت من دواء الدعوة الراشدة والإيمان ما غيرت به وجه الكون.
وعن زيد بن أرقم -رضي الله عنه- قال: (غزونا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان معنا أناس من الأعراب فكنا نبتدر الماء وكان الأعراب يسبقونا إليه فسبق أعرابي أصحابه فيسبق الأعرابي فيملأ الحوض ويجعل حوله حجارة ويجعل النطع عليه حتى يجيء أصحابه، قال: فأتى رجل من الأنصار أعرابياً فأرخى زمام ناقته لتشرب فأبى أن يدعه فانتزع قباض الماء فرفع الأعرابي خشبة فضرب بها رأس الأنصاري فشجه فأتى عبد الله بن أبي رأس المنافقين فأخبره وكان من أصحابه فغضب عبد الله بن أبي ثم قال: لا تنفقوا على من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى ينفضوا من حوله -يعني الأعراب- وكانوا يحضرون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند الطعام؛ فقال عبد الله: إذا انفضوا من عند محمد فأتوا محمدا للطعام فليأكل هو ومن عنده ثم قال لأصحابه: لئن رجعنا إلى المدينة فليخرج الأعز منكم الأذل. قال زيد: وأنا ردف رسول الله -صلي الله عليه وسلم- فسمعت عبد الله بن أبي فأخبرت عمي فانطلق فأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأرسل إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فحلف وجحد فصدقه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وكذبني، قال: فجاء عمي إلي فقال: ما أردت إلي أن مقتك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكذبك والمسلمون، قال: فوقع علي من الهم ما لم يقع على أحد فبينا أنا أسير مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفره قد خفقت برأسي من الهم إذ أتاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعرك أذني وضحك في وجهي فما كان يسرني أن لي بها الخلد في الدنيا ثم إن أبا بكر لحقني فقال: ما قال لك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قلت: ما قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئا غير أنه عرك أذني وضحك في وجهي فقال: أبشر ثم لحقني عمر فقلت له مثل قولي لأبي بكر فلما أصبحنا قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سورة المنافقين) رواه الترمذي، وصححه الألباني.ومما ثبت أيضا في استحباب البشاشة وطلاقة الوجه عند اللقاء ما رواه جابر بن سليم الْهُجَيْمِىُّ -رضي الله عنه- قال: قلت: (يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَعَلِّمْنَا شَيْئاً يَنْفَعُنَا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهِ. قَالَ: لاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئاً وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ الْمُسْتَسْقِي وَلَوْ أَنْ تُكَلِّمَ أَخَاكَ وَوَجْهُكَ إِلَيْهِ مُنْبَسِطٌ ... ) رواه أحمد، وصححه الألباني.
قوله -صلى الله عليه وسلم-: (مُنْبَسِطٌ) أي: منطلق بالسرور والانشراح، قال حبيب بن ثابت: "من حسن خلق الرجل أن يحدث صاحبه وهو مقبل عليه بوجهه".
قال الإمام الغزالي -رحمه الله-:
"فيه -أي هذا الحديث- رد على كل عالم أو عابد عبس وجهه، وقطب جبينه كأنه مستقذر للناس، أو غضبان عليهم، أو منزه عنهم، ولا يعلم المسكين أن الورع ليس في الجبهة حتى تقطب، ولا في الخد حتى يصعر، ولا في الظهر حتى ينحني، ولا في الرقبة حتى تطاطأ، ولا في الذيل حتى يضم، إنما الورع في القلب.
أما الذي تلقاه ببشر ويلقاك بعبوس؛ يمُن عليك بعلمه؛ فلا أكثر الله في المسلمين مثله، ولو كان الله يرضى بذلك ما قال لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(الشعراء:215)".
ورغم كل هذه المعاني والأهمية للابتسامة؛ فإن هناك ناس لا يبتسمون أبدا، ولا تنفرج أساريرهم وهم يلقون غيرهم من الناس... إنهم شريرون أو في نفوسهم مرض، وينابيع الخير مغلقة في نفوسهم وعليها الأقفال!!
والبعض يظن أن في التبسم إنزال من مكانته، ونقص من هيبته أمام الآخرين، إن أمثال هؤلاء المرضى واهمون أشد الوهم بذلك؛ ينفرون أكثر مما هم يقربون، وخسارتهم أكبر من ربحهم، واسمع لهذا الحديث الشريف؛ فعن جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: (مَا حَجَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَلاَ رَآنِي إِلاَّ تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي) متفق عليه.
والداعية عليه أن يتعود طلاقة الوجه ولو أن يدرِّب نفسه على ذلك، وأن يعوِّد نفسه الابتسام كائناً ما كانت ظروفه ضاغطة أليمة.
إن نجاح الداعية يكمن في قدرته على تكييف نفسه، وأن تكون له القوامة عليها وليس العكس، وأن تكون لديه القدرة على التحكم بنفسه حيال الظروف التي يمر بها، وأن يعطي لكل مقام مقالاً.
أعرف بعض الدعاة يخرجون على الناس والابتسامة تعلو محياهم وقد دفنوا في الأعماق هموماً ومشاكل لا يعلم مداها إلا الله.
وأيضا قد قال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّكُمْ لا تَسَعُونَ النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ ) رواه أبو يعلى والبيهقي في شعب الإيمان، وقال الألباني: حسن لغيره، فالتجهم والعبوس يقيم الحواجز بينك وبين الآخرين؛ ولذلك عليك أن تتعلم كيف تسيطر على أفكارك ومشاعرك؛ ليكون عبوسك حينئذٍ مقصودا ومتحكما فيه، ويؤدي رسالة محددة في وقتها المناسب.
وليس المقصود بطلاقة الوجه جماله أو حسن تقاسيمه... فقد يكون الوجه جميلا، وليس فيه أثر من الطلاقة، وقد يكون قبيحا ويفيض أنسا وبشرا.
فما عليك إلا أن تبتسم... ولا تحسب أنني أعني بالابتسامة مجرد علامة ترتسم على الشفتين لا روح فيها ولا إخلاص، كلا!! فهذه لا تنطلي على أحد، وإنما أتكلم عن الابتسامة الحقيقية التي تأتي من أعماق نفسك، تلك الابتسامة هي التي تنفذ إلى قلوب الآخرين.
يقول الشيخ العثيمين -رحمه الله-:
"وإلى جانب وقاره -الداعي- فينبغي أن يكون واسع الصدر، منبسط الوجه، لين الجانب، يألف الناس ويألفونه؛ حتى لا ينفضوا من حوله فكم من سعة صدر وبساطة وجه ولين أدخلت في دين الله أفواجا من الناس".
إن من خصائص هذه الوسيلة الدعوية أنها مدخل رئيسي وطبيعي لكسب الآخرين وبداية العلاقة معهم ،كما أنها علاقة قبول للشخص المقابل.
أضف إلى ذلك أنها تعطي انطباعا عند الآخر باحترامك له، وتشجيعه على فتح باب الحديث معك، بل وفتح قلبه لك أيضا، وكسر الحاجز الذي بينك وبينه.
توجيهات وتلميحات حول الابتسامة:
1- اجعل الابتسامة رسولك إلى قلوب الآخرين فهي مفتاح النفوس، وتجلب الراحة والهدوء للمبتسم نفسه و(تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ).
2- عندما تشعر أن الآذان قد أغلقت أمامك وتعطل استقبال رسالتك فعطر الجو بطرفة يتلوها ابتسامة.
3- حذار من الابتسامة الساخرة أو الباردة فهي تحول بين الآخرين وبين الثقة فيك.
4- حاول التعرف على ما نفس الآخر من خلال رصد ابتسامته وملاحظة جبينه وحركات عينيه.
5- حاول أن تعود نفسك على أن تكون ابتسامتك وسيلة لإبلاغ رسالتك كما تريد، وإن كانت مشاعرك خلاف ذلك.
6- عوِّد نفسك على الاستمتاع بالطرائف المضحكة لتتعود على الضحك أحيانا.
بعض الأقوال في التبسم
قال أبو حاتم بن حبان -رحمه الله-:
"الواجب على المسلم إذا لقي أخاه المسلم أن يسلم عليه متبسما إليه فإن من فعل ذلك تحات -سقط- عنهما خطاياهما كما تحات ورق الشجر في الشتاء إذا يبس وقد استحق المحبة من أعطاهم بشر وجهه.
وعن سعيد بن الخمس قال: "قيل له ما أبشـَّك؟! قال: إنه يقوم على برخيص". يعني: إن البشاشة رخيصة لا تكلفه مالا ولا جهدا، وإنها غالية وقيمة؛ لأنها تجذب القلوب وتقتلع أسباب البغضاء.
وقال الشاعر:أخو البشر محبوب على حسن بشره ولن يعدم البغضاء من كان عابسا
قال ابن حبان: "البشاشة إدام العلماء، وسجية الحكماء؛ لأن البـِشر يطفئ نار المعاندة ويحرق هيجان المباغضة، وفيه تحصين من الباغي ومنجاة من الساعي، ومن بشَّ للناس وجها لم يكن عندهم بدون -بأقل- الباذل لهم ما يملك".
وعن عروة بن الزبير قال: "أخبرت أنه مكتوب في الحكمة: يا بني ليكن وجهك بسطا، ولتكن كلمتك طيبة؛ تكن أحب إلى الناس من أن تعطيهم العطاء".
قال الشاعر:
الق بالبشر من لقيت من الناس جميعا ولاقهم بالطـلاقة
تـجْـنِ مـنهـم جَـنـَى ثمار فخذها طيبا طعمه لذيذ المذاقة
وعن سعيد الزبيدي قال: "يعجبني من القراء كل سهل طلق مضحاك فأما من تلقاه يبشر ويلقاك بعبوس يمـُنُّ عليك بعمله؛ فلا أكثر الله في القراء ضرب -مثل- هذا".
قال ابن حبان -رحمه الله-: "لا يجب على العاقل إذا رزق السلوك في ميدان طاعة من الطاعات إذا رأى من قصر في سلوك قصده أن يعبـِّس عليه بعمله وجهه، بل يظهر البشر والبشاشة له؛ فلعله في سابق علم الله أن يرجع إلى صحة الأوبة إلى قصده مع ما يجب عليه من الحمد لله والشكر له على ما وفقه لخدمته وحرم غيره مثله".
قال الشاعر:
فتى مثل صفو الماء أما لقاؤه فـبـشـر وأمـا وعـده فـجـميل
يسرك مفترا ويـشرق وجـهـه إذا اعتل مذموم الفعال بخيل
عـيي عن الـفحشاء أما لسانه فـعـف وأمـا طـرفـه فـكـلـيـل
وقال آخر:
لن تـستــتـم جـمـيـلا أنـت فـاعـله إلا وأنت طليق الوجه بهلول1
ما أوسط الخير فابسط راحتيك به وكن كأنك دون الشر مغــلول
وعن حبيب بن أبي ثابت قال: "من حسن خلق الرجل أن يحدث صاحبه وهو يبتسم".
وهذا آخر الكلام في هذا المقام والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) بهلول: المرح الضحاك الجمّاع لخير الصفات.
مراجع للموضوع:
- روضة العقلاء لابن حبان.
- حتى لا تكون كلا. لعوض القرني.
- الاستيعاب في حياة الداعية.
- ثلاثية النجاح.
فإن تعبيرات الوجه تتكلم بصوت أعمق من صوت اللسان وكأني بها تقول عن صاحبها: إني أحبك، إني سعيد ومسرور برؤيتك، فالوجه هو عنوان الداعية، والمرآة التي تعكس نفسيته وأعماقه؛ فإن كان متجهما أوحى بالضيق والتجهم، وإن كان طلقا مبتسما أوحى بالبشر والخير.
والابتسامة هي انفراج أسارير عن انفعالات صادقة داخل النفس؛ تحرك الوجدان وتشرق على الوجه كوهج البرق، حتى ليكاد الوجه يتحدث بنداء وهواتف تلتقطها القلوب فتنجذب الأرواح فتأتلف بسبب ذلك.
فالداعية لابد أن يتذوق طعم الابتسامة الصادقة، ويدرك أثرها العظيم، فكلما أخلص فيها النية حفرت في الصخر وأنبتت في الصحراء، وأظهرت خير أمة أخرجت للناس، وكانت من صفة النبي -صلى الله عليه وسلم- كما يقول أصحاب السير: أنه كان بسـّام المحيا، كيف لا يكون وهو القائل: (تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ صَدَقَةٌ) رواه الترمذي، وصححه الألباني.
وهذه صدقة لا تكلفك دينارًا ولا درهمًا، وكنز لو عرفت كيفية استخدامه، لأسرت القلوب، ولفتحت النفوس ثم سكبت من دواء الدعوة الراشدة والإيمان ما غيرت به وجه الكون.
وعن زيد بن أرقم -رضي الله عنه- قال: (غزونا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان معنا أناس من الأعراب فكنا نبتدر الماء وكان الأعراب يسبقونا إليه فسبق أعرابي أصحابه فيسبق الأعرابي فيملأ الحوض ويجعل حوله حجارة ويجعل النطع عليه حتى يجيء أصحابه، قال: فأتى رجل من الأنصار أعرابياً فأرخى زمام ناقته لتشرب فأبى أن يدعه فانتزع قباض الماء فرفع الأعرابي خشبة فضرب بها رأس الأنصاري فشجه فأتى عبد الله بن أبي رأس المنافقين فأخبره وكان من أصحابه فغضب عبد الله بن أبي ثم قال: لا تنفقوا على من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى ينفضوا من حوله -يعني الأعراب- وكانوا يحضرون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند الطعام؛ فقال عبد الله: إذا انفضوا من عند محمد فأتوا محمدا للطعام فليأكل هو ومن عنده ثم قال لأصحابه: لئن رجعنا إلى المدينة فليخرج الأعز منكم الأذل. قال زيد: وأنا ردف رسول الله -صلي الله عليه وسلم- فسمعت عبد الله بن أبي فأخبرت عمي فانطلق فأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأرسل إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فحلف وجحد فصدقه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وكذبني، قال: فجاء عمي إلي فقال: ما أردت إلي أن مقتك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكذبك والمسلمون، قال: فوقع علي من الهم ما لم يقع على أحد فبينا أنا أسير مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفره قد خفقت برأسي من الهم إذ أتاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعرك أذني وضحك في وجهي فما كان يسرني أن لي بها الخلد في الدنيا ثم إن أبا بكر لحقني فقال: ما قال لك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قلت: ما قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئا غير أنه عرك أذني وضحك في وجهي فقال: أبشر ثم لحقني عمر فقلت له مثل قولي لأبي بكر فلما أصبحنا قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سورة المنافقين) رواه الترمذي، وصححه الألباني.ومما ثبت أيضا في استحباب البشاشة وطلاقة الوجه عند اللقاء ما رواه جابر بن سليم الْهُجَيْمِىُّ -رضي الله عنه- قال: قلت: (يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَعَلِّمْنَا شَيْئاً يَنْفَعُنَا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهِ. قَالَ: لاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئاً وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ الْمُسْتَسْقِي وَلَوْ أَنْ تُكَلِّمَ أَخَاكَ وَوَجْهُكَ إِلَيْهِ مُنْبَسِطٌ ... ) رواه أحمد، وصححه الألباني.
قوله -صلى الله عليه وسلم-: (مُنْبَسِطٌ) أي: منطلق بالسرور والانشراح، قال حبيب بن ثابت: "من حسن خلق الرجل أن يحدث صاحبه وهو مقبل عليه بوجهه".
قال الإمام الغزالي -رحمه الله-:
"فيه -أي هذا الحديث- رد على كل عالم أو عابد عبس وجهه، وقطب جبينه كأنه مستقذر للناس، أو غضبان عليهم، أو منزه عنهم، ولا يعلم المسكين أن الورع ليس في الجبهة حتى تقطب، ولا في الخد حتى يصعر، ولا في الظهر حتى ينحني، ولا في الرقبة حتى تطاطأ، ولا في الذيل حتى يضم، إنما الورع في القلب.
أما الذي تلقاه ببشر ويلقاك بعبوس؛ يمُن عليك بعلمه؛ فلا أكثر الله في المسلمين مثله، ولو كان الله يرضى بذلك ما قال لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(الشعراء:215)".
ورغم كل هذه المعاني والأهمية للابتسامة؛ فإن هناك ناس لا يبتسمون أبدا، ولا تنفرج أساريرهم وهم يلقون غيرهم من الناس... إنهم شريرون أو في نفوسهم مرض، وينابيع الخير مغلقة في نفوسهم وعليها الأقفال!!
والبعض يظن أن في التبسم إنزال من مكانته، ونقص من هيبته أمام الآخرين، إن أمثال هؤلاء المرضى واهمون أشد الوهم بذلك؛ ينفرون أكثر مما هم يقربون، وخسارتهم أكبر من ربحهم، واسمع لهذا الحديث الشريف؛ فعن جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: (مَا حَجَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَلاَ رَآنِي إِلاَّ تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي) متفق عليه.
والداعية عليه أن يتعود طلاقة الوجه ولو أن يدرِّب نفسه على ذلك، وأن يعوِّد نفسه الابتسام كائناً ما كانت ظروفه ضاغطة أليمة.
إن نجاح الداعية يكمن في قدرته على تكييف نفسه، وأن تكون له القوامة عليها وليس العكس، وأن تكون لديه القدرة على التحكم بنفسه حيال الظروف التي يمر بها، وأن يعطي لكل مقام مقالاً.
أعرف بعض الدعاة يخرجون على الناس والابتسامة تعلو محياهم وقد دفنوا في الأعماق هموماً ومشاكل لا يعلم مداها إلا الله.
وأيضا قد قال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّكُمْ لا تَسَعُونَ النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ ) رواه أبو يعلى والبيهقي في شعب الإيمان، وقال الألباني: حسن لغيره، فالتجهم والعبوس يقيم الحواجز بينك وبين الآخرين؛ ولذلك عليك أن تتعلم كيف تسيطر على أفكارك ومشاعرك؛ ليكون عبوسك حينئذٍ مقصودا ومتحكما فيه، ويؤدي رسالة محددة في وقتها المناسب.
وليس المقصود بطلاقة الوجه جماله أو حسن تقاسيمه... فقد يكون الوجه جميلا، وليس فيه أثر من الطلاقة، وقد يكون قبيحا ويفيض أنسا وبشرا.
فما عليك إلا أن تبتسم... ولا تحسب أنني أعني بالابتسامة مجرد علامة ترتسم على الشفتين لا روح فيها ولا إخلاص، كلا!! فهذه لا تنطلي على أحد، وإنما أتكلم عن الابتسامة الحقيقية التي تأتي من أعماق نفسك، تلك الابتسامة هي التي تنفذ إلى قلوب الآخرين.
يقول الشيخ العثيمين -رحمه الله-:
"وإلى جانب وقاره -الداعي- فينبغي أن يكون واسع الصدر، منبسط الوجه، لين الجانب، يألف الناس ويألفونه؛ حتى لا ينفضوا من حوله فكم من سعة صدر وبساطة وجه ولين أدخلت في دين الله أفواجا من الناس".
إن من خصائص هذه الوسيلة الدعوية أنها مدخل رئيسي وطبيعي لكسب الآخرين وبداية العلاقة معهم ،كما أنها علاقة قبول للشخص المقابل.
أضف إلى ذلك أنها تعطي انطباعا عند الآخر باحترامك له، وتشجيعه على فتح باب الحديث معك، بل وفتح قلبه لك أيضا، وكسر الحاجز الذي بينك وبينه.
توجيهات وتلميحات حول الابتسامة:
1- اجعل الابتسامة رسولك إلى قلوب الآخرين فهي مفتاح النفوس، وتجلب الراحة والهدوء للمبتسم نفسه و(تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ).
2- عندما تشعر أن الآذان قد أغلقت أمامك وتعطل استقبال رسالتك فعطر الجو بطرفة يتلوها ابتسامة.
3- حذار من الابتسامة الساخرة أو الباردة فهي تحول بين الآخرين وبين الثقة فيك.
4- حاول التعرف على ما نفس الآخر من خلال رصد ابتسامته وملاحظة جبينه وحركات عينيه.
5- حاول أن تعود نفسك على أن تكون ابتسامتك وسيلة لإبلاغ رسالتك كما تريد، وإن كانت مشاعرك خلاف ذلك.
6- عوِّد نفسك على الاستمتاع بالطرائف المضحكة لتتعود على الضحك أحيانا.
بعض الأقوال في التبسم
قال أبو حاتم بن حبان -رحمه الله-:
"الواجب على المسلم إذا لقي أخاه المسلم أن يسلم عليه متبسما إليه فإن من فعل ذلك تحات -سقط- عنهما خطاياهما كما تحات ورق الشجر في الشتاء إذا يبس وقد استحق المحبة من أعطاهم بشر وجهه.
وعن سعيد بن الخمس قال: "قيل له ما أبشـَّك؟! قال: إنه يقوم على برخيص". يعني: إن البشاشة رخيصة لا تكلفه مالا ولا جهدا، وإنها غالية وقيمة؛ لأنها تجذب القلوب وتقتلع أسباب البغضاء.
وقال الشاعر:أخو البشر محبوب على حسن بشره ولن يعدم البغضاء من كان عابسا
قال ابن حبان: "البشاشة إدام العلماء، وسجية الحكماء؛ لأن البـِشر يطفئ نار المعاندة ويحرق هيجان المباغضة، وفيه تحصين من الباغي ومنجاة من الساعي، ومن بشَّ للناس وجها لم يكن عندهم بدون -بأقل- الباذل لهم ما يملك".
وعن عروة بن الزبير قال: "أخبرت أنه مكتوب في الحكمة: يا بني ليكن وجهك بسطا، ولتكن كلمتك طيبة؛ تكن أحب إلى الناس من أن تعطيهم العطاء".
قال الشاعر:
الق بالبشر من لقيت من الناس جميعا ولاقهم بالطـلاقة
تـجْـنِ مـنهـم جَـنـَى ثمار فخذها طيبا طعمه لذيذ المذاقة
وعن سعيد الزبيدي قال: "يعجبني من القراء كل سهل طلق مضحاك فأما من تلقاه يبشر ويلقاك بعبوس يمـُنُّ عليك بعمله؛ فلا أكثر الله في القراء ضرب -مثل- هذا".
قال ابن حبان -رحمه الله-: "لا يجب على العاقل إذا رزق السلوك في ميدان طاعة من الطاعات إذا رأى من قصر في سلوك قصده أن يعبـِّس عليه بعمله وجهه، بل يظهر البشر والبشاشة له؛ فلعله في سابق علم الله أن يرجع إلى صحة الأوبة إلى قصده مع ما يجب عليه من الحمد لله والشكر له على ما وفقه لخدمته وحرم غيره مثله".
قال الشاعر:
فتى مثل صفو الماء أما لقاؤه فـبـشـر وأمـا وعـده فـجـميل
يسرك مفترا ويـشرق وجـهـه إذا اعتل مذموم الفعال بخيل
عـيي عن الـفحشاء أما لسانه فـعـف وأمـا طـرفـه فـكـلـيـل
وقال آخر:
لن تـستــتـم جـمـيـلا أنـت فـاعـله إلا وأنت طليق الوجه بهلول1
ما أوسط الخير فابسط راحتيك به وكن كأنك دون الشر مغــلول
وعن حبيب بن أبي ثابت قال: "من حسن خلق الرجل أن يحدث صاحبه وهو يبتسم".
وهذا آخر الكلام في هذا المقام والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) بهلول: المرح الضحاك الجمّاع لخير الصفات.
مراجع للموضوع:
- روضة العقلاء لابن حبان.
- حتى لا تكون كلا. لعوض القرني.
- الاستيعاب في حياة الداعية.
- ثلاثية النجاح.